karem Admin
عدد الرسائل : 629 رقم العضوية : 1 تاريخ التسجيل : 23/11/2007
بطاقة الشخصية الاسم/: تاريخ الميلاد: الدولة: جمهورية مصر العربية
| | حياة ابى العلاء | |
أسرته.
في هذه المدينة استقرت أسرة المعري
التي ترجع بأصولها إلى قبيلة عربية مشهورة
هي تنوخ التي ينتهي نسبها إلى قضاعة ثم إلى يعرب بن قحطان.
وسميت بذلك لأنها تنخت بالشام قديمًا أي أقامت،
وقد عمر المعرة منهم بطن لبني ساطع الجمال وهو النعمان بن عدي
ولقب "بالساطع" لجماله وبهائه وكان جوادًا شجاعًا.
وبيت أبي العلاء في بني سليمان بن داود بن المطهر وفيهم العلم والرئاسة
يقول ابن العديم "وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان".
وتولى أجداد أبي العلاء قضاء المعرة وضم إليها جده أبوالحسن سليمان قضاء حمص أيضًا،
وعرف بالفضل وكرم النفس، ومات سنة 290 هـ، فولي بعده ابنه أبوبكر محمد بن سليمان
عم أبي العلاء الذي قصده الشعراء بالمدح. يقول الصنوبري فيه
بأبي يا ابن سليمان لقد سدت تنوخا
وهم السادة شبانًا لعمري وشيوخا
فلما مات ولي القضاء بعده أخوه عبدالله بن سليمان والد أبي العلاء،
واختلف في سنة وفاته، وله من الولد، غير أبي العلاء، أبو المجد محمد بن عبدالله
وأبو الهيثم عبدالواحد ابن عبدالله، وكانا شاعرين وخلّفا طائفة من الأولاد تولوا القضاء.
واستمر مجد الأسرة حتى أواخر القرن السادس الهجري.
وجدته لأبيه هي أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعري،
كانت تروي الحديث وعُدّت من شيوخ أبي العلاء الذين سمع الحديث عنهم.
وأمه من بيت معروف من بيوتات حلب الشهباء. وجده لأمه هو محمد بن سبيكة.
وخالاه هما أبوالقاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانا من ذوي الشرف والمروءة والكرم
ومن أرباب الأسفار طلبًا للمجد والجاه. يقول أبو العلاء في رثاء أمه
وكم لك من أب وسم الليالي
على جبهاتها سمــة اللئام
مضى وتَعــرُّف الأعــلام فيـه
غني الوسم عن ألف ولام
يقول في خاله علي:
كأن بني سبيـــكة فوق طير
يجوبون العزائز والنـــــجادا
أبالإســكندر الملك اقتديتم
فما تضعون في بلد وســـادا
وكانت صلته بهم طيبة، كما كانوا به بررة يعينونه ويصلونه.
وخاله أبو طاهر هذا هو الذي أعانه على رحلة بغداد، ولذا كان يكثر من ذكرهم
وله معهم مراسلات ومنها قصيدة بعث بها إلى خاله أبي القاسم علي
وكان قد سافر إلى المغرب فطالت غيبته
تفدِّيك النفوس ولاتفادى
فأدن الوصل أو أطل البعادا
وكان المعري شديد التعلق بأمه يتحدث عنها بعاطفة مشبوبة متقدة،
ولما رحل إلى بغداد كان حنينه إليها متصلاً وطيفها لا يفارقه، وتصحبه الهواجس والظنون،
وبقي طوال عمره يذكرها ولم ينسها على مر الأعوام.
يقول ـ وهو شيخ ـ لابن أخيه القاضي أبي عبدالله محمد:
أعبدالله ما أُسـدي جميـلاً
نظير جميل فعلك مثل أمي
سقتني درها ورعت وباتت
تعـوذني وتـقـرأ أو تُسـمي
نشأته.
أصيب في آخر العام الثالث من عمره بالجدري فعمي في الرابعة من عمره،
ولم يبق من ذكريات ما رآه إلا اللون الأحمر.
قال: " لا أعرف من الألوان إلا الأحمر،
لأني ألبست في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعصفر، لا أعقل غير ذلك".
بدأ أبوالعلاء صغيرًا في تلقي العلم على أبيه،
وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر،
وتُلمح الفائدة التي جناها من هذه الدروس إذ بدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة
ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه.
وكانت حلب في ذلك العصر إحدى حواضر العالم الإسلامي الكبرى
تضم جمعًا من العلماء ممن استدعاهم سيف الدولة إبان عنفوان دولته،
ولم تذهب نهضتها بموته بل استمرت بعده.
وفي حلب شهر تبريز المعري وروايته للأدب والشعر.
فقد روي أنه صحّح رواية شيخه ابن سعد لبيت المتنبي:
أو موضعًا في فناء ناحية
تحمل في التاج هامة العاقد
فقال أبوالعلاء:
أو موضعًا في فتان ناجية
ولم يقبل شيخه ذلك حتى مضى إلى نسخة عراقية للديوان فوجده كما قال أبوالعلاء.
تلقى أبوالعلاء دروسًا في السنة عن يحيى بن مسعر.
ومن حلب توجه إلى أنطاكية، وكانت بها مكتبة عامرة تشتمل على نفائس من الكتب
فحفظ منها ما شاء الله أن يحفظ، ثم سافر إلى طرابلس الشام ومر في طريقه باللاذقية،
ويقال إنه درس النصرانية واليهودية جميعًا.
ولما وصل أبو العلاء إلى طرابلس وجد بها مكتبة كبيرة ـ
وقفها أهل اليسار ـ درس منها ثم عاد إلى المعرة.
تردد في طور لاحق في مكتبات بغداد ودور العلم بها.
كان استعداده للعلم عظيمًا وذكاؤه ملتهبًا. روى الثعالبي عن أبي الحسن المصيصي الشاعر قوله:
" لقيت بمعرة النعمان عجبًا من العجب، رأيت أعمى شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد
ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول:
"أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر،
فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء"".
أشار ابن العديم إلى قوة حفظ أبي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها
أنه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما،
ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو نفسه أنه لم يحتج إليهم بعدها.
وفاة أبيه
اختلف المؤرخون في السنة التي مات فيها أبوه، فيذكر ياقوت أنه توفي سنة 377هـ بحمص،
وبهذه الرواية يأخذ بعضهم ويبني عليها رأيه في نبوغ أبي العلاء الباكر وعبقريته الفذة.
ويقول ابن العديم: إنه توفي سنة 395هـ بمعرة النعمان.
ويؤيد جمع من الدارسين روايته لأسباب منها أنه كان يذكر أسانيد رواياته،
وأغلب رواته من بني سليمان أو من تلاميذ المعري ومعاصريه،
ويذكر طرق الرواية قراءة أو سماعًا أو مكاتبة،
هذا فضلاً عن تخصصه واقتصاره على أخبار أبي العلاء بخلاف ياقوت في كتابه الجامع المانع.
ومنها أن القصيدة التي رثى بها أباه شديدة الأسر محكمة التركيب
فيها درجة من النضج الفني والفكري يصعب أن يتصف به ابن أربع عشرة سنة،
وقد وصفت بأنها من عيون الشعر في الديباجة والأغراض والمعاني.
وقد خلفت وفاة والده جراحًا غائرة وأسى عميقًا في نفسه لعظم عطاء الوالد البر
الذي كان اعتماد أبي العلاء عليه كبيرًا في كثير من شؤونه،
فأحس بعده بأنه مهيض الجناح ضائع أو شبه ضائع،
وهذا الحدث أمده بكثير من الآراء التي عظمت عنده من سوء رأيه في الحياة ويقينه بفسادها.
رحلته إلى بغداد
كان أبوالعلاء فقيرًا، وكان لايتكسب بشعره، وكان له ثروة ضئيلة
لا تتجاوز ثلاثين دينارًا في السنة جعل نصفها لخادمه.
ويرى بعضهم أن الذي منعه من التكسب أمران:
أولهما أن عزة النفس التي ورثها عن أسرته تمنعه من إراقة ماء وجهه،
وتصده عن ذل السؤال،
وثانيهما فطرته السليمة ودراسته الفلسفية اللتان صانتاه من الابتذال
وصوغ الأكاذيب في الأمراء. والكذب عنده بشع قبيح،
ثم إن المال الذي يأخذه عن طريق التكسب مال حرام
استحل ظلمًا وأولى به شيخ كبير وعجوز فانية وأرملة مهيضة الجناح وأطفال زغب.
كانت أمه تمانع في سفره أول الأمر، ولكنه أقنعها فأذنت له،
وأعد له خاله أبو طاهر سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ القادسية،
وهناك لقيه عمال السلطان فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقًا مخوفة إلى بغداد،
وعند وصوله نظم قصيدة قدمها إلى أبي حامد الأسفراييني واصفًا سفره
وجور عمال السلطان طالبًا مودة أبي حامد ومساعدته في رد سفينته.
ويتظرف فيها واصفًا سفره البري باصطلاح الفقهاء:
ورب ظهر وصلناها على عجل
بعصرها من بعيد الورد لمّاع
بضربتين لطهر الوجه واحدة
وللذراعــين أخــرى ذات إســراع
وكم قصرنا صلاة غير نافلة
في مهمه كصلاة الكسف شعشاع
ولا يذكر المؤرخون أسبابًا لرحلته تلك سوى أنها للسياحة وطلب العلم والحرص على الشهرة بمدينة السلام،
وربما أشاروا من طرف خفي إلى فقره وطلبه الغنى.
ولكن القفطي والذهبي ينصان على أن عامل حلب كان قد عارض أبا العلاء في وقف له،
فارتحل إلى بغداد شاكيًا متظلمًا. وقد يكون الاضطراب السياسي في الشام آنذاك
أحد الأسباب التي أخرجته وبغضت إليه المعرة فتركها ليقيم ببغداد.
وكانت أجزاء كبيرة من الشام قد خضعت للعبيديين وهم من الشيعة الباطنية
وكان المعري مبغضًا لهم غاية البغض،
فيرجح بعض الدارسين أن خروجه قد يكون بسبب تحكم هؤلاء في المعرة في السنة التي خرج فيها.
أما المعري فينفي أن يكون خروجه طلبًا لدنيا أو التماسًا لرزق:
أنبئكم أني على العهد سالم
ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما
تيممـه غيـلان عند بـلال
وكرر هذا في رسائله لأهل المعرة ولخاله،
وذكر أن أهل بغداد بذلوا له الأموال ليبقى بينهم، ولكن وجدوه
"غير جذل بالصفات ولاهش إلى معروف الأقوام".
كما نفى نفيًا قاطعًا أن يكون خروجه ليستزيد من العلم:
"ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شامي.
وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق قطرة منه في طلب أدب ولا مال. "
مع أنه كان أمرًا مألوفًا في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ
وكانت بغداد مما يقصد إليها الشعراء واللغويون والفقهاء والمحدثون.
وقد صرح أبو العلاء بسبب سفره في بعض رسائله أنه أتاها قاصدًا دار الكتب بها،
وكان يسميها دار العلم. ويذكر أنه لما دخل بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها.
وأنه حضر إلى خزانة الكتب التي بيد عبدالسلام البصري
وعرض عليه أسماءها فلم يستغرب شيئًا لم يره من قبل بدور العلم بطرابلس
إلا ديوان تيم اللات فاستعاره.
كان خروج المعري إلى بغداد في أواخر سنة 398هـ ودخلها في أوائل سنة 399هـ،
ولم يأت بغداد مغمورًا بل سبقته شهرته إليها،
ولكن أهل العاصمة الكبرى لم يكونوا ليسلموا بعبقرية الوافد قبل امتحانه.
وقد أعدوا له امتحانًا عسيرًا اجتازه بنجاح، ذكره ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار:
"احضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون عليه ما فيه مياومة
وهو يسمع إلى أن فرغوا، فابتدأ أبو العلاء وسردعليهم كل ما أوردوه له".
وأقروا له بالحفظ والعلم، والشعر معًا إذ قرأوا عليه ديوان سقط الزن
حضر المعري كثيرًا من مجالس العلماء ببغداد
واشترك في دروسهم ومناظراتهم فكان يحضر مجمع سابور بن أردشير وفيه يقول:
وغنت لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل ميهال
ويحضر مجمع عبدالسلام البصري يوم الجمعة ويقول فيه:
تهيـج أشـواقي عروبة أنها
إليك ذوتني عن حضور بمجمع
ويحضر دروس الشريف المرتضي،
وكانت علاقته أول الأمر حسنة متينة بالشريفين المرتضي والرضي وأسرتهما،
ورثى والدهما الشريف الطاهر بقصيدة مرتجلة، وكانا يجلانه ويرفعان منزلته،
ثم تغير المرتضي عليه. كما كان يحضر المجالس الشعرية بمسجد المنصور حيث يلقي الشعراء قصائدهم.
ورغم هذا الحضور وتلك المشاركات العلمية الاجتماعية الحافلة إلا أن المقام لم يطب له ببغداد،
وحدث له من الحوادث ما آلمه وزهده فيها.
من تلك الحوادث ما يروى من أنه عثر يوم إنشاده المرثية في الشريف الطاهر برجل لا يعرفه،
فقال له الرجل إلى أين يا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا.
وأشد من هذا وقعًا على نفسه موقف الشريف المرتضي منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه،
وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه،
فقال المعري: "لو لم يكن له إلا قوله: "لك يا منازل في القلوب منازل". لكفاه،
فغضب المرتضي وأمر بإخراجه فسحب برجله وأخرج،
ثم قال المرتضي لجلسائه: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة
دون غيرها من غرر المتنبي؟ قالوا: لا. قال: إنما عرض بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأني كامل
وحاول المعري حضور مجلس إمام النحو ببغداد أبي الحسن علي بن عيسى الربعي،
ولما قصده واستأذن عليه قال أبو الحسن: ليصعد الاصطبل، وتعني الأعمى بلغة الشام،
فانصرف من فوره مغضبًا، ثم قرر المعري الانسحاب من بغداد،
وما كان هينًا على البغداديين مفارقته فكانوا لرحيله كارهين ولفراقه محزونين وودعوه باكين
. وودعهم بقصيدته المشهورة:
نبي من الغربان ليس على شرع
يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع
ويذكر أبو العلاء سببين لرحيله هما فقره ومرض أمه.
أثارني عنكم أمران والدة
لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
ويقال إن من أسباب خروجه أن فقهاء بغداد تعرضوا له في بيتين هما:
يد بخمس مئين عسجد وديب ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض ما لنا إلا السكــوت له وأن نعـوذ بمـولانـا من النــار
ولما عزمو على أخذه بهما خرج من بغداد طريدًا منهزمًا
ورجع إلى المعرة ولزم منزله فكان لا يخرج منه.
ولايذكر معاصروه شيئًا من هذا ولا المعري نفسه، الذي كان يقظًا في تسجيل ما يمر به من أحداث
. بل إن إحدى رسائله تشهد بعكس هذا إذ يقول فيها:
"يحسن الله جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق،
وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا أموالهم عرض الجد".
ويذكر بعضهم أنه فارق بغداد كارهًا لها، زاهدًا فيها،
ولكن رسائله تبين أنه أحبها حبًا جمًا وفارقها مكرهًا،
وكان يتمنى المقام بها وكأن مقامه بها كان يقتضيه أن يبذل ما لا يستطيع بذله من خلقه وعزته وأنفته،
وما كان باستطاعته تغيير طبعه وقد شب عن الطوق. وتبين التائية شيئًا من عاطفته تجاه بغداد:
يا عارضًــا راح تحــدوه بوارقـه للكرخ سلمت من غيث ونجيتا لنــا ببغــداد من نهــوى تحيتــه فـإن تحمـــلتها عــنـا فحيــيــتا يا ابن المحسن ما أنسيت مكرمة فاذكر مودتنا إن كنت أنسـيتـا سقيًا لدجلــة والدنـــيا مفرقــة حتى يعود اجتماع النجم تشـتيتًا
وله من قصيدة أخرى:
متى سألت بغــداد عني وأهلها فإني عن أهل العواصـم سـآل
وتظهر على لسانه فلتات في ذم أهل بغداد في اللزوميات،
لعلها أثر من آثار ما لقي من أذى فيها، أو لعلها صدى لسوء رأيه في الناس جميعًا إبان عزلته.
خرج أبوالعلاء من بغداد لست ليال بقين من رمضان عام 400هـ،
وحدد طريق عودته من بغداد إلى الموصل
ثم نزل بالحسنية ووصل بعدها إلى آمد، وقد مر في طريقه بطرف حلب ولم يدخلها تنفيذًا لقرار العزلة.
عزلته
توفيت أمه وهو في الطريق من بغداد راجعًا، فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر،
وأضاف موتها إلى فواجعه ما ملأ نفسه ظلامًا وحبًا في العزلة التي اختارها،
وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنسه أن يدفن إلى جوارها.
على أن قلبي آنس أن يقال لي إلى آل هذا القبر يدفنك الآل
فبعد عودته من بغداد قرر أن يعتزل الناس جميعًا وسمى نفسه رهين المحبسين،
وعبر عن ثلاثة سجون يعيشها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تســـأل عن الخــبر النبيث لفقـدي ناظـري ولـزوم بيـتي وكون النفس في الجسم الخبيث
وكان في طبعه ميل إلى العزلة كما وصف نفسه بأنه
"وحشي الغريزة إنسي الولادة".
وتضافرت أسباب حملته على اتخاذ قرار العزلة؛
فمنها الأحداث المؤلمة التي مرت به من فقد أبيه وأمه وما يلقى من أذى أحيانًا من بعض الناس،
ويجعل بعضهم من أسباب عزلته ـ إضافة إلى ما سبق ـ سببين رئيسيين،
أولهما: ذهاب بصره الذي جعله يجهل كثيرًا من آداب الناس في عاداتهم،
وكان شديد الحياء عزيز النفس يكره أن يخطئ في ما ألف الناس
فيكون موضع السخرية والاستهزاء أو الرحمة أو الشفقة.
وثانيهما فشله في الإقامة في بغداد حيث يلقى العلماء والفلاسفة،
ومن ثم اضطراره إلى لزوم المعرة وهي خلو من العلماء،
فكأن معاشرته للبغداديين قد بغضت إليه معاشرة الناس.
قرر أبو العلاء الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها،
فكان يصوم النهار ويسرد الصيام سردًا لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل
ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان ولايتزوج، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي فإن أتتني حلاوة فبلس
والبلس من البقل العدس أو الفول، والبلس التين. وعبر عن تحريم ما ذكر في قوله:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالمًا ولا تبغ قوتًا من غريض الذبائـح ولاتفجعن الطير وهي غوافل بما وضعــت فالظـلم شر القبائح ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت صحائح
ويكتفي من الثياب بما يستره من خشنها،
ومن الفراش بحصير من بردي أو لباد،
وكان يكلف نفسه أمورًا شاقة زيادة في مجاهدتها مثل الاغتسال شتاءً بالماء البارد:
مضى كانون ما استعملت فيه حميم الماء فاقدم يا شباط
وقد التزم بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعًا وأربعين سنة
إلا مرة واحدة مكرهًا بعد ما ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس،
وذلك أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على أصحاب ماخور قصدوها بسوء،
فنفر إليها الناس وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه.
وكان أسد الدولة في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك وعسكر بظاهر المعرة
وحاصرها وشرع في قتالها واعتقل سبعين من أعيانها،
فلما ضاق الأمر بالمعريين لجأوا إلى أبي العلاء فخرج وقابل صالحًا واستشفع لديه
فقال له: قد وهبتها لك يا أبا العلاء، وقد ذكر أبو العلاء الحادثة في قصيدة:
أتت جامع يوم العروبة جامـعًا تقص على الشهاد بالمصر أمرها فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها لخلـت سمـاء الله تمطـر جمرها
والتزم بقرار عزلته من جهة ثانية مدة من الزمان،
أي أنه لم يفتح داره لأحد من الناس. قال ابن العديم:
"أقام مدة طويلة في منزله مختفيًا لا يدخل عليه أحد.
ثم إن الناس تسببوا إليه وألحوا في طلب الشفاعة لديه من أقاربه الأدنين".
ثم إنه استجاب لتوسلات المتوسلين ففتح داره لطلاب العلم من كل صقع وصوب،
وصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وأخذ الناس يفدون إليه،
وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار. | |
|