يلاحظ بعض المؤرخين، عندما يكتبون تاريخ قرن بعينه، كالقرن العشرين، أن البداية الحقيقية للقرن لم تكن أول سنة فيه، ونهايته الحقيقية لم تكن آخر سنة منه، فيتكلمون عن «القرن العشرين القصير»، أو «القرن التاسع عشر الطويل»، علي أساس أن الذي يميز القرن العشرين، مثلاً، هو ما حدث بين بداية الحرب العالمية الأولي في ١٩١٤ وسقوط حائط برلين في ١٩٨٩، وهي فترة أقصر من مائة عام، وأن الذي يميز القرن التاسع عشر هو ما حدث بين قيام الثورة الفرنسية، مثلاً، في ١٧٨٩ وقيام الحرب العالمية الأولي، وهي فترة أطول من مائة عام.
بهذا المعني يمكن أن نقول إن ما يميز «عصر السادات» عما قبله وعما بعده، فيما يتعلق بما حدث للطبقة الوسطي المصرية، لم يبدأ باعتلاء السادات الحكم في ١٩٧٠، بل بتدشين سياسة الانفتاح الاقتصادي في ١٩٧٤، ولم ينته بمقتل السادات في ١٩٨١، بل بانتهاء العصر الذهبي لهجرة العمالة المصرية إلي الخليج في منتصف الثمانينيات، فما الذي حدث للطبقة الوسطي في مصر خلال هذه الفترة التي تزيد قليلاً علي عشرة أعوام؟
كان أهم ما حدث، فيما يتعلق بالطبقة الوسطي، هذين الحدثين بالضبط: الانفتاح الاقتصادي، والهجرة إلي بلاد النفط في الخليج وليبيا، فقد فجر هذان الحدثان فرصاً غير معهودة للصعود الاجتماعي أدخلت أعداداً كبيرة من الطبقة الدنيا في الطبقة الوسطي، في فترة قصيرة للغاية، مما طبع الطبقة الوسطي بسمات لم تكن لها لا في الخمسينيات والستينيات، ولا في عهد ما قبل الثورة.
شهدت هذه الفترة (٧٤ - ١٩٨٦) معدلاً للنمو الاقتصادي (أكثر من ٨% سنوياً) لم تعرف مصر مثله طوال القرن العشرين، بل ربما في تاريخها الحديث كله، ولكنه كان نمواً من نوع غريب، لا يعود إلي نمو سريع في الصناعة، والزراعة، أو الخدمات الحكومية، كما كان النمو في عهد عبدالناصر، بل إلي نمو التجارة وأعمال الوساطة وتحويلات العاملين في الخارج، والدخل المتولد من قناة السويس وصادرات البترول، الذي تضاعف سعره عدة مرات خلال هذه الفترة، إن كل هذه المصادر للنمو السريع في الدخل يمكن اعتبارها مصادر «غير إنتاجية»،
وتسمي أحياناً «مصادر ريعية»، والدخل «الريعي» في مفهوم الاقتصاديين هو الدخل الذي لا يقابله نشاط إنتاجي أو لا يقابله «جهد»، إن كل هذه المصادر تتطلب بالطبع نوعاً أو آخر من «الجهد»، ولكن الفرق واضح بينها وبين الزراعة والصناعة أو الخدمات الحكومية، كخدمات التعليم والصحة، إذ أيا كان الجهد المبذول في إدارة قناة السويس مثلاً، فإنه لا يتناسب أبداً مع ما تولده قناة السويس من دخل، وقل مثل هذا عن صادرات البترول وعن أعمال الوكالات التجارية والسمسرة وتجارة العملة، بل حتي عن جزء كبير من تحويلات العاملين بالخارج والجهد المبذول في هذه الحالة الأخيرة هو، علي أي حال، جهد مبذول في الخارج، ولم يبذله «المعالون» الذين أرسلت إليهم هذه التحويلات.
في ظل هذه الأموال التي تدفقت علي المصريين خلال هذه الفترة، من هذه المصادر الريعية، وفي ظل التضخم الذي يصاحب تدفق الأموال دون أن يقابله إنتاج موازٍ وبنفس القدر، وما يخلقه التضخم المفاجئ من فرص الإثراء السريع، وبالنظر إلي أن معظم العمالة المهاجرة إلي الخارج كانت تنتسب إلي شرائح الدخل الدنيا،
وبالنظر إلي ما خلقه الانفتاح علي العالم من فرص الربح الكبير والمفاجئ، وإلي تدفق السلع الاستهلاكية التي لم يكن للسوق المصرية عهد بها طوال سنوات «الانغلاق» في الخمسينيات والستينيات، بالإضافة إلي استمرار التوسع في التعليم الذي بدأ في العقدين السابقين، وفتح جامعات حديثة في الأقاليم، كان لابد أن يتضخم حجم الطبقة الوسطي، وأن تكتسب هذه الطبقة صفات جديدة، وأن تزداد صعوبة تمييزها عن غيرها.
ها قد اختلط الحابل بالنابل من جديد، ولكن بدرجة أكبر بكثير مما حدث في عهد عبدالناصر، ها قد أصبحت الطبقة الوسطي، بدرجة أكبر حتي مما حدث في عهد عبدالناصر، حضرية وريفية في نفس الوقت، متعلمة وأمية في نفس الوقت، وانتشرت معرفة القراءة والكتابة دون أن يعني هذا بالضرورة تعليماً حقيقياً.
وأصبح تمييز الطبقة الوسطي بمجرد النظر أصعب مما كان حتي في الخمسينيات والستينيات، إذ انتشر الزي الأوروبي بين شرائح اجتماعية جديدة مع زيادة السفر والانفتاح علي العالم، وانتشرت أنواع حديثة من السلع الاستهلاكية وألعاب الأطفال المستوردة دون أن يعني ذلك أن المستهلك وأولاده قد أصبحوا «عصريين» حقاً، بل ولا حتي بالضرورة أن يكون دخله قد ارتفع بدرجة كبيرة، كما ذهبت شرائح اجتماعية جديدة إلي المسارح والشواطئ وأماكن الترفيه مما لم يكن لها به عهد إلا منذ زادت القوة الشرائية في أيديهم منذ وقت قريب جداً، فاستجابت المسارح ووسائل الترفيه لأذواقهم ما داموا قادرين علي الدفع.
في هذه الفترة انتشر التليفزيون انتشاراً كبيراً، وهو ما أسهم بدوره في طمس الفوارق بين الطبقتين الوسطي والدنيا، وزاد صعوبة التمييز بينهما.. لم يقتصر الأمر علي أن التليفزيون دخل بيوت الطبقتين، بل أصبح ما يقدمه من برامج وتمثيليات يسهم في هذا الطمس عن طريق تعريف الجميع بأنماط الاستهلاك التي يمكن أن يمارسها الجميع، والسلع الجديدة التي كادت أن تكون في متناول الجميع، كالنظارة الشمسية أو جهاز التسجيل أو الراديو الترانزستور، فضلاً عن الذهاب إلي الكوافير والاحتفال بأعياد ميلاد الأطفال علي نحو يشبه طريقة الطبقة الوسطي القديمة في الاحتفال بها.
في هذه الفترة أيضاً انتشرت ظاهرة التحجب، أي تغطية المرأة شعرها والالتزام بثوب واسع طويل يغطي الذراعين ويصل إلي القدمين. لقد قيل الكثير في تفسير هذا التغير الذي لحق بزي المرأة المصرية ابتداء من منتصف السبعينيات، وأياً كان التفسير المقبول، فقد أضاف انتشار الحجاب سبباً آخر لصعوبة التمييز بين الطبقة الوسطي القديمة والحديثة، وكذلك بين الطبقة الوسطي كلها وبين الشرائح الاجتماعية الأقل دخلاً.
كان للتقدم التكنولوجي في صناعة سلع الاستهلاك في الدول الصناعية، وعلي الأخص في اليابان، مع انفتاح مصر علي العالم ابتداء من منتصف السبعينيات أثر كبير أيضاً في ازدياد صعوبة تمييز الطبقة الوسطي عن غيرها، فقد أدي هذا التقدم التكنولوجي إلي تقريب كثير من هذه السلع من أيدي الأقل دخلاً، وزاد إنتاج الأصناف المتعددة من نفس السلع، والمتفاوتة في الجودة، ومن ثم ذات الأسعار المختلفة مما لا يسهل اكتشافه بمجرد النظر، ومن أوضح الأمثلة علي ذلك بنطلون البلوجينز الذي لم يعد من الصعب علي أحد اقتناؤه ولكن تتفاوت أصنافه دون أن يسهل التمييز بين أحدها عن الأصناف الأخري الأعلي سعراً.
إن هذه الظاهرة الأخيرة التي أدت إلي تقريب شرائح الدخل الدنيا من شرائح الطبقة الوسطي، لم تكن بالطبع مقصورة علي مصر، ولا علي دول العالم الثالث، بل أسهمت في طمس الفروق حتي في داخل الدول الصناعية نفسها، فإذا أضيفت إليها تطورات أخري كانتشار التعليم، وظهور ما عُرف بـ«دولة الرفاهية»، وتحقيق العمالة الكاملة، فهمنا لماذا قال أحد السياسيين البريطانيين في أوائل السبعينيات: «إننا أصبحنا كلنا طبقة وسطي الآن»، وهو قول ينطوي طبعاً علي مبالغة ولكنه يلمس حقيقة مهمة، حتي في حالة مصر، وهي أن الطبقة الوسطي في مصر قد أصبحت بعد مرور عشر سنوات علي بداية الانفتاح الاقتصادي والهجرة إلي الخليج أكبر بكثير منها في أي وقت مضي، سواء فيما يتعلق بالحجم المطلق أو الحجم النسبي لمجموع السكان، كما أصبح من الصعب أيضاً، أكثر من أي وقت مضي، تمييزها عما دونها.
***
ما أن بلغنا منتصف الثمانينيات حتي أصبحت الطبقة الوسطي المصرية ليست فقط أقل تميزاً بالمقارنة بما كانت عليه قبل الثورة، وكما كانت في العقدين التاليين مباشرة لقيام الثورة، بل أصبح أيضاً حسها الوطني وحماسها لأي قضية عامة أضعف مما كانا في هذين العهدين، كما أنها أصبحت «طبقة منتجة» بدرجة أقل مما كانت في العهد السابق علي الثورة في الميدان الثقافي علي الأقل، وبدرجة أقل مما كانت في الخمسينيات والستينيات في الميدانين الثقافي والاقتصادي علي السواء.
يكفي أن نقارن الإنتاج الثقافي في هذه الفترة التي سميناها فترة السادات، في الجودة والعمق والجدية واحترام قواعد اللغة، بما كان عليه الإنتاج الثقافي في الثلاثينيات والأربعينيات، كما يكفي أن نلاحظ ما طرأ علي مثقفي وفناني الخمسينيات والستينيات من تدهور أو إحباط أو كليهما خلال السبعينيات أو حتي الاختفاء التام دون أن تري السبعينيات بزوغ جيل جديد يقارب مستواهم في النشاط والإبداع،
أما في الميدان الاقتصادي فقد كانت الطبقة الوسطي المصرية قبل الثورة قليلة الثمرات وضيقة النشاط بسبب السيطرة الأجنبية علي الاقتصاد المصري، كما سبق أن أشرت، وكانت الطبقة الوسطي في الخمسينيات والستينيات خاضعة خضوعاً تاماً لإرادة الدولة وتوجيهاتها، فأصبحت في السبعينيات خاضعة لسيد جديد: لا هو المحتل الأجنبي ولا الدولة المتسلطة، بل حمي الاستهلاك، أصبحت الطبقة الوسطي في السبعينيات مشغولة بالاستهلاك لا بالإنتاج، وفي غمار حمي الاستهلاك هذه، ضعف الحماس للوطن وللإنتاج، وقد كنا نظن وقتها أن هذا هو أسوأ ما يمكن أن يحدث للطبقة الوسطي المصرية: طبقة كبيرة الحجم حقاً، ولكنها قليلة الثمرات، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، فما الذي حدث في الثلاث والعشرين سنة التالية(١٩٨٥ - ٢٠٠٨)؟
منقول عن جريدة المصرى اليوم بقلم الاستاذ امين العالم