مثلما ظل حادث هروبه لغزاً، عاش الفريق عزيز باشا المصري، لغزاً يعصي علي الفهم.. اعتقل عدة مرات.. وشارك في عدة ثورات.. وحير سلطات الاحتلال ورجال البوليس السياسي، إلي أن رحل في صمت، وحيداً، في منزله بالزمالك.
يقول فؤاد نصحي، في كتابه «عزيز المصري باشا»، الصادر عام ١٩٥١، إنه ولد في عام ١٨٨٠ في القاهرة، فيما ذكرت الموسوعة الميسرة أن عام مولده كان ١٨٧٩، أما أقرب التواريخ إلي الحقيقة فهو ما ورد في جريدة «المؤيد» الصادرة في أول يونيو عام ١٩١٣، أنه من مواليد القاهرة عام ١٨٧٧، وأن والده هو زكريا أفندي علي، وهو جركسي الأصل، وقد توفي حينما كان عزيز في العاشرة من عمره، فكفلته أمه التي توفيت بعد ٥ سنوات، فكفلته أخته لأمه.
تعلم عزيز في المدرسة التوفيقية، وكان اسمه فيها عبدالعزيز زكي، فلما كان في الآستانة اتخذ لنفسه اسم عبدالعزيز علي، وكان الأتراك يطلقون عليه اسم «قاهرة - لي - عزيز - علي» أي «عزيز علي المصري» وهو الاسم الذي عرفناه به.
حصل عزيز علي البكالوريا من المدرسة التوفيقية عام ١٨٩٦، والتحق بمدرسة الحقوق، علي غير رغبته ونزعته إلي العسكرية تلبية لرغبة علي باشا ذو الفقار، وتعلم التركية في الإجازة وسافر إلي الآستانة، ودخل مدرستها الحربية ليحقق رغبته، وقد ورد في مذكرات جمال باشا أنه تعرف علي «عزيز بك المصري» وقت تخرجه في المدرسة الحربية عام ١٩٠٤، وهذا يتفق مع التاريخ الذي ذكره «محب الدين الخطيب»، وقد عمل عزيز المصري في الجيش الثالث بمقدونيا وخدم بعد ذلك في ألبانيا.
كانت المدارس العسكرية في الوقت الذي التحق بها عزيز تموج بالدعوة للحركات الإصلاحية، وكانت مقدونيا من أكثر الدول تقدماً، وبعيدة عن قبضة الدولة العثمانية، وفي المدارس العسكرية تعرف علي عدد من الشباب العربي الذين قاموا بدور معه بعد ذلك في الجمعيات السرية التي أسسها، بهدف إنشاء كيان عربي مستقل، داخل الدولة العثمانية، ومن هؤلاء كان نوري السعيد وجعفر العسكري وجميل المدفعي وغيرهم.
وفي كلية أركان الحرب التقي عزيز المصري، مصطفي كمال الذي عرفناه بعد ذلك باسم مصطفي كمال أتاتورك الذي تولي بعد تخرجه منصباً عسكرياً في دمشق واجتمع حوله عدد من الساخطين علي السلطان عبدالحميد، فكون في أكتوبر ١٩٠٦ جمعية «الوطن» التي نقلت مركزها إلي (سالونيك) وفي أوائل ١٩٠٧ حدث اتصال بين جمعية الوطن السرية «هذه» وبين مركز الاتحاد والترقي في باريس التي كانت تناوئ السلطان أيضاً وتضم عسكريين ومدنيين أتراكاً وعرباً مسلمين ومسيحيين، وتهدف إلي إقامة دولة عثمانية ديمقراطية، وانضم عزيز المصري، وعدد من الضباط العرب، إلي الاتحاد والترقي وشارك عزيز في هذه الثورة.
واضطر السلطان لأن يعلن في ٢٤ يوليو إعادة العمل بدستور ١٨٧٦، ولكن في أبريل ١٩٠٩ حدث نوع من التراجع والنكوص فزحفت قوات الاتحادين من سالونيك في ٢٣ أبريل ١٩٠٩ وكان عزيز المصري علي رأس إحدي فصائلها حتي إن محب الدين الخطيب ذكر في كتابه أنه شاهد عزيز المصري يقتحم معسكر (السليمية) وقال جمال باشا في مذكراته «ولما زحف الجيش علي الآستانة بعد الثورة الرجعية في ١٣ أبريل كان عزيز علي رأس إحدي فصائل الجيش وأظهر مهارة عظيمة في مطاردة الثائرين».. إذن كان عزيز في مقدمة العناصر العربية في الجيش العثماني التي انحازت إلي الدستوريين إلي أن تم عزل السلطان في ١٩٠٩.
رحل الفريق عزيز المصري في ٢٥ يوليو ١٩٦٥، وكان جمال عبدالناصر قبل الثورة قد زاره ليبحث معه استيلاء الضباط علي السلطة، وحين أعلن عبدالناصر عن هذه الزيارة، نفي عزيز المصري ما قاله ناصر، وقال إنه لم يكن من بين من زاروه وأن شخصاً واحداً يحوز تقديره وإعجابه وهو عبدالمنعم عبدالرؤوف، وكان وقتها خارج البلاد.
وكان صدر حكم عليه بالإعدام، بسبب صلته بالإخوان، وكان عزيز المصري قصير القامة ضامر الجسم له عينا صقر يشع منهما الذكاء، وله دور مع الشريف حسين.. وتم اعتقاله في جريدة «القبلة» وكان محكوماً عليه بالإعدام، وقد أمكن لنوري السعيد أن يقنع الشريف حسين بالعفو عنه.
كما كان له دور في ليبيا إبان الزحف الإيطالي، وعلي إثر دور عزيز المصري مع الكتائب خلال عامي ١٩٥٠ و١٩٥١ آواه محافظ القاهرة آنذاك «فؤاد باشا شيرين» في منزله ونفي مع نفر من رجاله في منزله، وكان هذا المكان هو آخر ما يفكر فيه الباحثون عن الفدائيين، وكان المحافظ هو الذي يخدمه بنفسه، حينما يحضر للمنزل فجر كل يوم، ليخرج إلي عملياته الفدائية مع رجاله في المساء.
وحين وقعت ثورة اليمن ضد الحكم العثماني، حاول عزيز المصري الإصلاح بين الإمام يحيي والدولة العثمانية في أغسطس ١٩٠٩ لكن محاولته الأولي فشلت بينما نجحت المحاولة الأولي عام ١٩١١.
وحين اندلعت الحرب التركية الإيطالية وتزايد النفوذ الإيطالي في طرابلس منذ تولي الاتحاديون الحكم، ووجهت إيطاليا إنذاراً للدولة العثمانية في ٢٧ سبتمبر ١٩١١ وبدأت الحرب بعد يومين وتراخت السلطات العثمانية ونهضت القوي الشعبية لمعاونة المجاهدين العرب في ليبيا وكان عزيز قائداً للقوات العثمانية تحت إمرة أنور باشا ثم قائداً لها بعد رحيل أنور باشا، وكان عمر المختار قائداً لشيوخ الزوايا وظل عزيز يقاتل حتي وصل إلي الإسكندرية في يوليو ١٩١٣.
وحين أسس جمعية «العهد» وبلغ عدد أعضائها ٣١٥ ضابطاً أصبح يشكل خطراً، خصوصاً بعد تزايد أفرع الجمعية في أكثر من دولة عربية، قبض عليه فيما كان خارجاً من الفندق ظهر يوم ٩ فبراير ١٩١٤ وحوكم في أول أبريل من العام ذاته بتهمة إنشاء دولة عربية مستقلة وصدر حكم ضده بالإعدام فلما ثارت ثائرة العرب في تركيا وخارجها وتصدي الأزهر لحملة الدفاع عنه وصدر عفو بشأنه.
وفي النهاية عاد عزيز المصري إلي القاهرة في مارس ١٩١٧ وتزوج من أمريكية، أنجب منها ولده الوحيد عمر الذي سافر مع والدته للعيش في أمريكا، واختير مديراً لكلية البوليس، وهو الذي أدخل نظام الكلاب البوليسية، واختاره الملك فؤاد ليشارك في الإشراف علي تنشئة ولده «فاروق»، الملك فيما بعد، وكثيراً ما كان يكرر عزيز المصري أن محمد حسنين باشا وعلي ماهر باشا قد قاما بإفساد فاروق، مع سبق الإصرار.
وفي عام ١٩٣٧ رقي عزيز المصري إلي رتبة لواء ثم حصل علي الباشوية، وعين رئيساً للأركان عام ١٩٣٩، ومنح رتبة فريق ثم أحيل للتقاعد، فسافر إلي العراق، دون سبب واضح، فلما قامت ثورة «رشيد عالي الكيلاني» تساءل الناس هل كان عزيز من بين داعمي هذه الثورة؟
أما عن حضوره الملهم في ثورة يوليو، فكان أشبه بأب روحي لمجموعة من الضباط الأحرار، ويروي الرئيس الراحل أنور السادات في كتاب «أسرار الثورة المصرية» قصة اتصال «عزيز المصري» برجال ثعلب الصحراء «روميل» الذين تسللوا إلي القاهرة وقصة اتصاله بمرشد الإخوان حسن البنا مما يعكس قناعات قطاعات مصرية كثيرة كانت تؤيد الاستقواء بالألمان علي الاحتلال البريطاني.
وفي ١٦ مايو ١٩٤١ استقل عزيز المصري طائرة مؤن من المطار العسكري بألماظة ومعه حسين ذو الفقار صبري وعبدالمنعم عبدالرؤوف وتعطل المحرك وهبطت الطائرة في مزرعة بجوار قليوب.. وفي الرابعة بعد منتصف الليل دق عزيز باب ضابط البوليس المصري الذي عرفه فأدي له التحية العسكرية.. فلم يكن يعرف بأمر الهروب، ووضع سيارة نقطة الشرطة تحت تصرفه أقلته إلي ميدان الأوبرا، كان ذلك في عهد وزارة حسين سري باشا.
وبعدها أذيع الخبر ولم يتوصل البوليس لمكان عزيز المصري، إلي أن أسفرت تحريات البوليس عن أن محمد حسين (والد أحمد حسين زعيم حزب مصر الفتاة) الهارب والمطلوب اعتقاله، يتردد كثيراً علي منزل معين في إمبابة، فداهم الضابط (إبراهيم إمام) مسؤول البوليس السياسي شقة «عبدالقادر رزق» المدرس بالفنون الجميلة، وإذا بالبوليس وجهاً لوجه مع عزيز المصري باشا، الذي أودع السجن في ٤ يونيو ١٩٤١ إلي أن أفرجت عنه حكومة النحاس باشا العام التالي وأعيد اعتقاله في ١٣ أغسطس ١٩٤٢ واتهامه بالاتصال بالألمان، حسب رواية أنور السادات، ليفرج عنه في ٢٠ نوفمبر ١٩٤٤.
وفي عام ١٩٤٨ قام عزيز المصري بدور مهم في تنظيم كتائب المتطوعين في حرب فلسطين، وقام بدور مهم في تنظيم الكتائب عام ١٩٥١، وبعد ثورة يوليو ١٩٥٢ عين سفيراً لمصر لدي الاتحاد السوفيتي عام ١٩٥٣، وبعدها قبع في بيته في ١٨ شارع الجزيرة بالزمالك، تقوم علي رعاية شؤونه «زينب» إلي أن لقي ربه.