يموج العالم في العصر الراهن بشيء يسمى الفساد الإداري واستغلال النفوذ والرشوة، فالفضائح السياسية والمالية نسمع عنها كل يوم تقريباً، ولا تكاد تخلو دولة من دول العالم من اكتشاف أنواع من الفساد في إداراتها وموظفيها كباراً وصغاراً فالووترجيت واللوكهيد، وهدايا نيكسون ورشاوي الكونجرس وفضائح أوروبا وآسيا كل ذلك فقرات من مسلسل يومي للفساد السياسي والإداري والمالي.
والبلاد العربية الإسلامية من أعظم بلاد الله ابتلاء بكل هذه الأنواع فالصعاليك (الصعلوك في لغة العرب الذي لا مال عنه) الذين يستولون شيئاً من أموال الناس سرعان ما يصبحون من أهل الملايين هذا في القمة، وأما العمال الصغار الذين يتولون المصالح الصغيرة كالجمارك والتراخيص والتموين فلا يكاد يسلم أحد من شرهم على طول حدود بلادنا الإسلامية والعربية.
وبجانب كثرة الفساد على هذا النحو كثر أيضاً الحديث عن الفساد، فالكل يشكو ويتهم الآخرين ويزعم أنه ينشد الإصلاح ولا يحب الفساد وكأن المفسدين ليسوا من أهل الأرض، وإذا جئت تناقش بعض الذين ينهبون عن الفساد وتعلمهم أنهم أيضاً لا يتقون الله فيما خولهم إياه وأنهم يسرقون أيضاً ويغشون أخبروك أن ما يفعلونه لا يساوي شيئاً إذا قيس بما يفعله الآخرون فالأمر عندهم نسبي فقط بمعنى أنهم يختلسون ديناراً وغيرهم يختلس ألفاً.
والعجب حقاً أن الحكومات في بلادنا العربية تعمد إلى محاربة الفساد بطرق بدائية جداً ولعلها مشجعة على الفساد لا ملغية له.
ومن هذه الطرق تشكيل لجان التحقيق في الفساد!! وإحصاء تركات الناس ثم قياس الزيادة في نماء الثروة!!.
فأما تشكيل لجان حكومية للتحقيق في الفساد فهو وضع غير منطقي لأن المفروض أن الحكومة بجميع عمالها (موظفيها) وحدة واحدة وهي مسؤولة أمام الشعب لا أمام نفسها عن الفساد فكيف يحق للحكومة أن تحاكم نفسها، كيف يكون المتهم حكماً ومتهماً في آن واحد؟!
وأما قياس الزيادة في أموال الناس ومقارنة ذلك بدخولهم المنظورة فهو شيء يدعو إلى العجب حقاً فالدخول المشروعة متعددة منها الميراث والهدية والهبة والعمل (الراتب الوظيفي) والأعمال الحرة المسندة للزوجات والأولاد والأقارب في ظل القوانين التي تحرم على الموظف الحكومي العمل الحر، ولن يعجز أي موظف غبي أن ينسب الزيادة الهائلة في أمواله وممتلكاته إلى واحدة من المصادر السابقة، ثم نحن في عصر البنوك والحسابات السرية، وتهريب العملة فكيف ستستطيع لجان إحصاء الثروة صيد هذه الأسماك في أعماق هذه المحيطات.. ملهاة!! مأساة!.
وهنا يرد السؤال.. وما العمل وكيف الطريق إلى القضاء على الفساد الوظيفي والإداري؟ وللإجابة على هذا السؤال لابد من اتباع الخطوات الآتية:
أولاً: لابد من تعريف من هو العامل (الموظف) وما الحكومة وما دورها الحقيقي في المجتمع وهنا يجب أن نعلم أن الحكومة مهمتها تنفيذية فقط وهي وكيلة عن الشعب والشعب هو الذي وكلها وليس الله سبحانه وتعالى فالله لم يوكل أحداً من عباده على أحد حتى رسوله قال الله له: {وما أرسلناك عليهم وكيلاً} وما دامت هي وكيلة عن الشعب فلا يجوز لها التصرف في ماله إذا إلا بإذنه، بل لا يجوز لها أي تصرف مطلقاً إلا بإذن هذا الموكل، ومعنى هذا أنها مسؤولة أمام الشعب، وليس الشعب مسؤولاً أمامها ومسؤوليتها هذه في المهام التي أنيطت بها ومنها الأمن والدفاع والعدل (أخذ الحق من الظالم للمظلوم) والرعاية (كفالة المحتاجين والفقراء..) والتنمية أصبحت مهمة أساسية من مهمات الحكومة الحديثة والحكومة بجميع موظفيها مسؤولة عن كل هذه المهمات.
ثانياً: لابد وأن يكون للشعب الصورة الصحيحة التي يستطيع بها أن يراقب الحكومة وأن يحاسب أفرادها، وأن يقاضيهم إذا كانت له خصومة مع أحدهم وأدنى هذه الصور هو حرية الرأي والتمكن من رفع قرار الاتهام وإذا كنا نقول بأن أمريكا بها فساد في القمة وأن نيكسون هو بطل فضيحة ووترجيت فيجب أن لا ننسى أيضاً أن الذي اكتشف هذه الفضيحة صحفي وأن القانون قد حماه حتى استطاع أن يطيح برئيس الدولة.
ثالثاً: من الذي سيحكم بين المدعي والمدعى عليه، فإذا ادعت الحكومة على فرد ما بأنه أساء أو سرق أو شهر أو سب وإذا ادعى فرد من الشعب أن أحد أفراد الحكومة أساء أو تعدى أو ظلم فمن الذي سيحكم؟ وهنا لابد من العلم أن السلطة الثالثة في الدولة ونعني بها السلطة القضائية يجب تحريرها من سلطة الحكومة لأنها قاضية عليها وليست تابعة لها، فسلطة .
القضاء يجب أن تكون السلطة العليا في الدولة ولذلك فالمكان الصحيح للتقاضي والتحقيق في الفساد هو القضاء وليس هو اللجان التي تشكلها الحكومة لتحاكم نفسها!!.
رابعاً: إذا تحققت الأمور السابقة فعند ذلك يجب وضع قانون واضح ليحاسب الناس على أساسه وفي ضوئه حتى نستطيع الحكم والتفريق بين ما هو فساد وما هو غير ذلك، إذ كثيراً ما يحاسب الموظفون على التوافه من التصرفات، وتترك العظائم أننا نختلف كثيراً في مفهوم الفساد ولذلك لا بد من وضع مفاهيم محددة حتى يستطيع الناس التفريق بين الممنوع والمشروع.
خامساً: لابد من التركيز على أن الأعمال والوظائف الحكومية كبيرة كانت أو صغيرة إنما هي تكليف وأمانة ومسؤولية لا تشريف وغنيمة ومحسوبية ولابد من تطبيق ذلك ويحصل هذا إذا أبعدنا الحريصين على المناصب الحكومية وكلفنا بها المخلصين الذين لا يحرصون عليها ولا يسعون لها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إنا لا نولي هذا الأمر رجلاً طلبه ولا أحداً حرص عليه]، ثم يجب أيضاً جعل الراتب الحكومي راتباً للكفالة فقط حتى يزهد الناس في الوظيفة الحكومية وأن نقرب بين الرواتب العليا والدنيا ونلقي الفروق الشاسعة بينهما وتبقى الفروق لطبيعة العمل فقط وما يتطلبه من جهد وأدوات وما فيه من أخطار.
سادساً: لابد من توجه الأمة حكومة وشعباً إلى العناية بالتربية الخلقية وهذا يعني أن نوجه اهتمامناً إلى الأسرة والمدرسة لغرس المبادئ الفاضلة وتعليم الأمانة والصدق والعطف على الآخرين ومواساة المحتاجين وكذلك لننفر من الغش والكذب والظلم.. باختصار نحن في حاجة إلى ثورة خلقية وخاصة في ميدان الأسرة والمدرسة، فالموظف الغاش المختلس لا شك أنه كان ابناً عاقاً وتلميذاً غشاشاً كذاباً لم يجد التربية الصحيحة في هذه المحاضر.
سابعاً: لابد من وضع أهداف سامية تسير الأمة إليها كالعز والسيادة وتحقيق كلمة الله في الأرض، وإيجاد الفرد الصالح، وأما أن تكون أهداف الدولة لا تتعدى الرفاه والدنيا والوناسة، فكيف نعيب على الناس بعد ذلك إذا حصلوا على هذه الغايات بأي طريق؟!
هذه قواعد أساسية لابد وأن يضعها المسؤولون الذين يريدون حقاً القضاء على الفساد في أجهزة الدولة وإلا فلا نعجب إذا انتهت هذه الإجراءات التي تجري لمحاسبة الفساد في دولنا العربية والإسلامية إلى فراغ.....