كان سقوط نظام الإقطاع في أوروبا، واندحار النظام الكنسي المساند له، وظهور الآلة الجديدة وبداية الاكتشافات العلمية كل ذلك كان مقدمة لبروز عصر جديد نستطيع أن نسميه عصر العلم المادي والآلات، هذا العصر الذي امتد طيلة القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين انقلبت فيه أفكار الناس ومعتقداتهم فبينما كان جميع الناس -إلا ما شذ منهم- يؤمن إيماناً ما بعقيدة غيبة وبشيء وراء الأسباب فإن الناس تحولوا إلا القليل منهم إلى الإيمان بالمادة فقط ويرفض كل شيء وراء الأسباب وبالكفر بكل ما لا تصل العلوم المادية والحواس إليه، وبهذا انهار الفكر الديني بوجه عام على سطح الكرة الأرضية، وحل محل الآلهة التي اعتنقها البشر آلهة جديدة تتمثل في قدرة العلم المادي على صناعة المعجزات وتسخير الأرض والسماء وقهر الحياة والتغلب على مشاكلها وتسخير الأرض والسماء وقهر الحياة والتغلب على مشاكلها واكتشاف المجهول أياً كان، وبدأت مرحلة جديدة للسخرية من أهل العقائد الدينية أياً كانت والحكم عليها جميعاً بحكم واحد وهي أنها من نسج خيال المشعوذين والدجالين، أو مما يضيفه الإنسان على الطبيعة التي كان الإنسان يقف حائراً أما تصرفاتها الغربية كالعواصف والزلازل والبراكين.
وكما كان كثير من هذه العقائد الغيبية باطل في ذاته ولا يعدو كونه شعوذة وتدجيلاً ورجماً بالغيب دون دليل وبرهان فقد اتخذ المغرضون من هذا الدليل على بطلان العقائد الإسلامية التي تستند إلى الدليل والبرهان ولكن أهل الحضارة الحديثة لم يكن عندهم الوقت ليميزوا بين العقائد الباطلة والعقائد الحقة فحكموا عليها جميعاً بحكم واحد ووضعوها جميعاً تحت قضية واحدة هذه القضية تقول بما أن العقائد الدينية كالهندوكية والنصرانية والبوذية لا تعدو أن تكون ترهات وخزعبلات وبما أن الإسلام أيضاً عقيدة دينية من هذه العقائد فهو كذلك، وتحت هذه القياس الشمولي الباطل جابه الإسلام كما جابهت العقائد الأخرى موجة المد الحضاري المادي وخسر المسلمون في هذه المجابهة كثيراً من رجالهم الذين اهتزت عندهم العقائد الدينية الموروثة وانصرفوا إلى الإيمان بالإله الجديد الذي يمثله العلم المادي الذي وصف بأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم.
وسعى الإنسان لاهثاً خلف هذا الإله الجديد فلا يكاد يظهر مخترع جديد حتى يصفق الناس له، ولا تكون تظهر نظرية علمية تفسر شيئاً من هذا الكون حتى يسجد الناس سجدة شكر في محراب العلم، وابتدأ علماء المادة ينكبون بالبحث والتجريب في كل ناحية من نواحي الحياة، وفي كل يوم يرى الناس عجيباً وغريباً، وفي أثناء هذا الركض اللاهث نحو غايات العبادة المادية الجديدة فقد الناس عقائدهم القديمة وطلقوها وابتدأ الناس ينتظرون أن يحقق العلم المادي سعادة الإنسان على الأرض وراحته وأمنه ومستقبل أجياله، وأن يفسر لهم لغز الحياة والموت الذي يتحكم في وجودهم وفنائهم وأن يجيب على أسئلتهم الحائرة، لماذا أوجدنا؟ وإلى أين نسير؟ ومن خلق هذا الكون؟ ولماذا تتصرف المادة
القوانين؟.. الخ إلى مئات من الأسئلة الحائرة ولكن هذا الانتظار طال، بل كلما مرت أيام واكتشف الناس جديداً في هذا الكون زادت الحيرة والإرباك وتبخرت آمال السعادة والأمن والاستقرار فالإنسان قد أصبح يعيش على أرض ادخر على سطحها من آلات الدمار والخراب ما يكفي لتدمير الأرض عشرات المرات!! فأين الأمن؟ وما زالت الجرائح والأمراض والأوبئة والزلازل.. تهدد حياة الإنسان ووجوده، وهذه المخترعات الكثيرة ووسائل الراحة والرفاهية قد انقلبت بدلاً من أن تكون نعمة إلى أن تصبح هلاكاً للنفس والضمير وتشويهاً لجسم الإنسان وإفساداً لبيئته، والأسئلة الحائرة لا جواب عليها، وابتدأ الإنسان يشعر بضالته وصغره عندما عاين عجائب الخلق نحوه فرأى الأرض الصغيرة الضائعة وسط طوفان هائل من النجوم والكواكب والمجرات التي تسبح في أماد فسيحة لا يدركها عقل ولا يحيط بها حساب أو علم ورأى الإنسان أن المادة التي آمن بها تنغلق على سر عجيب هو سر الذرة والإلكترون وإن هذا الجزء الذي يتناهى في الصغر هو من أعجب الأمور وإن لم يكن أعجبها ولم يدر الإنسان لليوم لماذا كان كل هذا؟
وفي منتصف هذا القرن العشرين وقف الناس من جديد على حافة الهاوية وابتدأ الكفر بالإله الجديد، وبدأ هذا الكفر من علماء المادة أنفسهم الذين قالوا لقد وصلنا إلى طريق مسدود، وابتدأ صراخ الناس من كل ناحية أننا نتدمر.. نتمزق.. الأزمات.. أسلحة الدمار الحروب.. الصراع، وابتدأت حركة ردة جماعية جديدة عن العبادة المادية للإله المادي.. ولكن هذه الردة تلونت بألوان شتى، فقد وجد كثير من الناس سعادتهم في الحبوب المخدرة والمنومة التي تساعد الإنسان على الهروب من عالم الواقع إلى عالم الخيال، واغرق آخرون في الجنس والمتع الحسية إغراقاً ليس للاستمتاع، ولكن للهروب أيضاً من واقع الحياة السيء، ولما لم يتحقق هذا الهروب باللقاء الفطري بين الذكر والأنثى تحول إلى الشذوذ، وابتدأ آخرون ينبشون في الأوراق القديمة ويفتشون في الديانات الغابرة عن إله جديد وتفسيرات أخرى للغز الحياة، وسعادة جديدة غير التي افتقدوها من إلههم القديم، وراجت في أمريكا وأوروبا الآن الديانات الوثنية والخزعبلات الصوفية الهندوكية، وبدأ الشعب الروسي الذي فُرض عليه الإلحاد فرضاً منذ ستين عاماً يعاود الخطى إلى الكنيسة ويحن إلى المساجد، ويعود البوذيون إلى ترميم معابدهم ونصبهم.
باختصار لقد أعلنت المذاهب المادية الاجتماعية والاقتصادية الإفلاس وابتدأ الناس يصيخون السمع ويترقبون ظهور إله جديد.
والمسلمون أهل الدين الحق قد تأثروا بلا شك بظهور إله العلم المادي وباندحاره أيضاً، ولأن عامة المسلمين من العرب وإن كان غير العرب من المسلمين أكثر عدداً - فإنهم أبطأ أفاقة من كبوة، وأقل استشراقاً للمستقبل، وهذا شأن الجنس العربي بوجه عام، أقول لأن العرب المسلمين هذه هي أخلاقهم الجبلية الأصيلة فإنهم لذلك سيتأخرون كثيراً حتى يتقدموا إلى هذا العالم المضطرب ببضاعتهم النقية الجيدة وبدينهم الحق.
حسب قوانين ثابتة؟ ومن خلق هذه.
فالإسلام الحق فيه الإجابة على أسئلة الناس الحائرة وفي ظل نظامه الخلقي والاجتماعي يستطيع الناس أن يحققوا السعادة على الأرض، ولكن المرحلة الحالية التي تشهد هذه التحولات العجيبة من الكفر بالإله المادي والاتجاه نحو آلهة جديدة لم يستطع مفكرو المسلمين وعلماؤهم أن يستوعبوها، وليس في طوقهم وهم بهذه الحالة أن يقدموا للناس البديل لما هم فيه من شقاء وبؤس وضياع.
ولذلك فلابد من ثورة فكرية عقائدية جديدة تستطيع بعث المسلمين من جديد وتقديم غذاء جيد للجوع الروحي الذي يجتاح العالم في الراهن، فأين يا ترى يوجد هذا البعث وتتحقق هذه الثورة الفكرية العقائدية؟.