لا نستطيع القول إن أمتنا تعيش بلا آمال في العزة والسيادة والنصر على الأعداء، هذا بالرغم من محاولات الصرف الهائلة عن هذه الآمال المتمثلة في إغراق السوق الإعلامي بفرق المضحكين والهازلين والهواة والعابثين من كل لون وجنس، وبالمحاولات الحكومية في كافة أقطارنا الإسلامية بتمجيد بطولات الكرة والرقص والموسيقى وبالصرف الباذخ جداً على كل هؤلاء وحرمان الجادين والمؤمنين من أي عون ينعش جسدهم ويقوي إيمانهم، أقول بالرغم من كل ذلك فإن الأمة مازالت متعلقة بأماني العزة والسيادة والنصر على الأعداء.
* ولكن هذه الآمال ضائعة بين فريقين: فريق يمثله زعماء سياسيون ماديون لا يقدرون قوة الإيمان ولا يحسبون لها حساباً، وبنظرهم المادي يرون البون الشاسع بين آمال الأمة، وواقعها المرير من تسلط الأعداء عليها، وتأخرها في مضمار الحضارة والقوة فلا يرون حلاً إلا الاستسلام والإذعان للواقع، والرضى من الأمر بما يقسمه العدو، ثم وصف الذين يرون إمكانية تحقيق آمال الأمة بالخبال والمزايدة والغوغائية والهوس الديني، هذا إذا أحسنَّا الظن بهم.
وفريق آخر لا يحسب للأسباب حساباً، ولا يقدر الواقع الذي نعيش فيه، ويظن أننا نعيش في فراغ وأن مجرد انتسابنا إلى الإيمان ورغبتنا في الخير أن ذلك كاف للوصول إلى أمانينا وتحقيق أحلامنا.. ومثل هؤلاء مثل الذين يحملون روحاً بلا جسد وأمنية بلا واقع، ومثل أولئك مثل الذين يحملون جسداً بلا روح ووسيلة بلا هدف ولا غاية.
* ولهذا السبب يحدث الشقاق كثيراً فبينما يرى أصحاب النظرة المادية فقط أننا لا نملك من الوسائل ما نستطيع أن نقف به على أقدامنا ولا نملك من السلاح ما نستطيع أن نشهره في وجوه أعدائنا، يرى الآخرون أننا نستطيع أن نسمع الدنيا كلها أصواتنا، بل ونستطيع أن نخضعها لسيادتنا وسلطاننا.
وإذا تعمق الخلاف بين الفريقين اتهم الماديون مخالفيهم بالسير في ركاب الاستعمار، والتمسح في الدين من أجل السيادة والحكم، واتهم الآخرون أهل السيادة بالسير في ركاب الأعداء، والتشبث بالكراسي وتضليل الأمة عن أهدافها ودفعها إلى الذل والهوان خدمة لأعدائها.
* والحق أننا في حاجة إلى سياسة إسلامية خلقية تعتمد الوسيلة المناسبة للموقف المناسب، ونملأ الأمة بروح الإيمان الذي يحيي شبابها، ويفتق وعيها، ويدفعها إلى البذل والتضحية نحن في حاجة إلى جسم سليم وروح سليم.. أيضاً.. إلى جيش مدرب جيد الإعداد يحمل روحاً وثابة وخلقاً كاملاً وإيماناً حقيقياً، وهذه الروح هي التي ستحول الوسيلة في أيدينا، وإن قلت عن وسائل الأعداء وسيلة فعالة، وسلاح فتاك، وأمتنا في تاريخها الطويل المجيد ما كانت لتحقق نصراً لولا أنها جمعت بين الجسد والروح، بين السعي المطلق وبذل الوسع إلى أقصاه لاتخاذ الوسيلة المناسبة، وبين التوكل المطلق واليقين الكامل أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، وأن الوسائل لا تساوي شيئاً إن أراد الله شيئاً آخر.
وهذا واضح كامل الوضوح في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فلو جئت تنظر إليه في حركته السياسية بدعوته وكيف كان يتخذ الأسباب ويعد لكل أمر عدته لقلت أنه لا يؤمن بشيء فوق الأسباب وأنه لا يتعمد إلا عليها، ولو جئت تنظر إليه وهو يسعى إلى أمر لا تبلغه الأسباب المادية مطلقاً لقلت أنه لا يؤمن بشيء يسمى الأسباب وأنه يتوكل على ربه توكلاً مطلقاً، وهكذا كان الصدر الأول على الخصوص من المسلمين، آخذون بأسباب النصر والعزة والتمكين مستفيدين بذلك إلى أبعد الحدود ثم هم مؤمنون متوكلون يحملون آمالاً عريضة إلى أبعد الحدود.
* واليوم تسقط أمتنا بين دفع الماديين الذين فقدوا إيمانهم وأرواحهم، وبين دفع المتهورين الذين فقدوا عقولهم وبصيرتهم فمتى تنشأ في الأمة روح جديدة تملؤها سعادة ونشوة، ومحبة وغيرة، وتجعلها تستفيد من هذه الإمكانيات الضخمة الهائلة التي ذخرها الله في هذه الأرض، متى نستفيد من شبابنا الخلاق لو عرف الطريق.. ومن نسائنا المخلصات الوفيات المجاهدات لو علمن الطريق.. ومن بترولنا المتدفق لو أحسنا استخراجه وتصنيعه ومن أموالنا وموقعنا ومن تراثنا العزيز متى نستفيد من كل إمكانياتنا المهدرة وشبابنا الضائع.
* متى يعرف صناع القرار السياسي في بلادنا كيف يوالون أمتهم، ويحبون شعوبهم، متى يعرف هؤلاء القادة والزعماء أن العز والسيادة لهم في الدنيا والآخرة طريقها الإيمان والعمل الصالح، وأن اللعنات ستلاحقهم إلى قبورهم إن هم تخلوا عن مهمتهم التي خولهم الله إياها.
متى نجعل من هذا الشهر منطلقاً إلى الإيمان والعمل الصالح؟ وهل هناك عمل صالح أكبر وأجدى من قرار حكيم يصدر من أمام عادل، ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول: لو
أعلم أن لي دعوة مستجابة لادخرتها للسلطان لأن بصلاحه صلاح الأمة، فهل يتجه أهل السياسة في بلاد المسلمين إلى إدخال الروح في قضايانا السياسية؟